ما جاء في المصورين
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة) أخرجاه .
قوله: " باب ما جاء في المصورين ". يعني: من الوعيد الشديد.
ومناسبة هذا الباب للتوحيد: أن في التصوير خلقًا وإبداعًا يكون به المصور مشاركًا لله في ذلك الخلق والإبداع.
قوله في الحديث: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي). ينتهي سند هذا الحديث إلى الله عز وجل، ويسمي حديثًا قدسيًا، وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب (ص 69).
قوله: "ومن أظلم". " من " اسم استفهام والمراد به النفي، أي: لا أحد أظلم، وإذا جاء النفي بصيغة الاستفاهم كان أبلغ من النفي المحض، لأنه يكون مشربًا معني التحدي والتعجيز.
فإن قيل: كيف يجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} [البقرة: 114]، وقوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا} [الأنعام: 21] وغير ذلك من النصوص؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن المعني أنها مشتركة في الأظلمية، أي أنها في مستوي واحد في كونها في قمة الظلم.
الثاني: أن الأظلمية نسبية، أي أنه لا أحد أظلم من هذا في نوع هذا العمل لا في كل شيء، فيقال مثلًا: من أظلم في مشابهة أحد في صنعه ممن ذهب يخلق كخلق الله، ومن أظلم في منع حق ممن منع مساجد الله، ومن أظلم في أفتراء الكذب ممن افتري على الله كذبًا.
قوله: " يخلق ". حال من فاعل ذهب، أي: ممن ذهب خالقًا.
والخلق في اللغة: التقدير، قال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت ** وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
تفري، أي: تفعل، ما خلقت، أي: ما قدرت.
ويطلق الخلق على الفعل بعد التقدير، وهذا هو الغالب، والخلق بالنسبة للإنسان يكون بعد تأمل ونظر وتقدير، وأما بالنسبة للخالق، فإنه لا يحتاج إلى تأمل ونظر لكمال علمه، فالخلق بالنسبة للمصور يكون بمعني الصنع بعد النظر والتأمل.
قوله: " يخلق كخلقي ". فيه جواز إطلاق الخلق على غير الله، وقد سبق الكلام على هذا والجواب عنه في أول الكتاب.
قوله: " فليخلقوا ذرة ". اللام للأمر، والمراد به التحدي والتعجيز، وهذا من باب التحدي في الأمور الكونية، وقوله تعالى: {فليأتوا بحديث مثله} [الطور: 34] من باب التحدي في الأمور الشرعية.
والذرة: واحدة الذر، وهي النمل الصغار، وأما من قال بأن الذرة هي ما تتكون منها القنبلة الذرية فقد أخطأ، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخاطب الصحابة بلغة العرب وهم لا يعرفون القنبلة الذرية، وذكر الله الذرة لأن فيها روحًا، وهي من أصغر الحيوانات.
قوله: " أو ليخلقوا حبة ". " أو " للتنويع، أي: انتقل من التحدي بخلق الحيوان ذي الروح إلى خلق الحبة التي هي أصل الزرع من الشعير وغيره وليس لها روح.
قوله: " أو ليخلقوا شعيرة ". يحتمل أن المراد شجرة الشعير، فيكون في الأول ذكر التحدي بأصل الزرع وهي الحبة، ويحتمل أن المراد الحبة من الشعير ويكون هذا من باب ذكر الخاص بعد العام، لأن حبة الشعير أخص من الحب. أو تكون " أو " شكًا من الرواي.
فالله تحدي الخلق إلى يوم القيامة أن يخلقوا ذرة أو يخلقوا حبة أو شعيرة.
فإن قيل: يوجد رز أمريكي مصنوع.
أجيب إن هذا المصنوع لا ينبت كالطبيعي، ولعل هذا هو السر في قوله: " أو ليخلقوا حبة "، ثم قال: " أو ليخلقوا شعيرة "، لأن الحبة إذا غرست في الأرض فلقها الله، قال تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى} [الأنعام: 95]، وقال تعالى: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له}، أي: اجتمعوا لخلقه متعاونين عليه وقد هيؤوا كل ما عندهم، {وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} [الحج: 73].
قال العلماء: لو أن الذباب وقع على هذه الأصنام فامتص شيئًا من طيبها ما استطاعوا أن يستنقذوه منه، فيكون الذباب غالبًا لها، {ضعف الطالب}، أي: العابد والمعبود، {والمطلوب}، أي: الذباب.
ويستفاد من هذا الحديث، وهو ما ساقه المؤلف من أجله: تحريم التصوير، لأن المصور ذهب يخلق كخلق الله ليكون مضاهيًا لله في صنعه والتصوير له أحوال:
الحال الأولى: أن يصور الإنسان ما له ظل كما يقولون، أي: ما له جسم على هيكل إنسان أو بعير أو أسد أو ما أشبهها، فهذا أجمع العلماء فيما أعلم على تحريمه، فإن قلت: إذا صور الإنسان لا مضاهاة لخلق الله، ولكن صور عبثًا، يعني: صنع من الطين أو من الخشب أو من الأحجار شيئًا على صورة حيوان وليس قصده أن يضاهي خلق الله، بل قصده العبث أو وضعه لصبي ليهدئه به، فهل يدخل في الحديث؟
فالجواب: نعم: يدخل في الحديث، لأنه خلق كخلق الله، ولأن المضاهاة لا يشترط فيها القصد، وهذا هو سر المسألة، فمتي حصلت المضاهاة ثبت حكمها، ولهذا لو أن إنسانًا لبس لبسًا يختص بالكفار ثم قال: أنا لا أقصد التشبه بهم، نقول: التشبه منك بهم حاصل أردته أم لم ترده، وكذلك، لو أن أحدًا تشبه بامرأة في لباسها أو في شعرها أو ما أشبه ذلك وقال: ما أردت التشبه، قلنا له: قد حصل التشبه، سواء أردته أم لم ترده.
الحال الثانية: أن يصور صورة ليس لها جسم بل بالتلوين والتخطيط، فهذا محرم لعموم الحديث، ويدل عليه حديث النمرقة حيث أقبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيته، فلما أراد أن يدخل رأي نمرقة فيها تصاوير، فوقف وتأثر، وعرفت الكراهة في وجهه، فقالت عائشة رضي الله عنها: ما أذنبت يا رسول الله؟ فقال: (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) ، فالصور بالتلوين كالصور بالتجسيم، وقوله في " صحيح البخاري ": (إلا رقمًا في ثوب) ، إن صحت الرواية هذه، فالمراد بالاستثناء ما يحل تصويره من الأشجار ونحوها.
الحال الثالثة: أن تلتقط الصور التقاطًا بأشعة معينة بدون أي تعديل أو تحسين من الملتقط، فهذا محل خلاف بين العلماء المعاصرين:
فالقول الأول: أنه تصوير، وإذا كان كذلك، فإن حركة هذا الفاعل للآلة يعد تصويرًا، إذ لولا تحريكه إياها ما انطبعت هذه الصورة على هذه الورقة، ونحن متفقون على أن هذه صورة، فحركته تعتبر تصويرًا، فيكون داخلًا في العموم.
القول الثاني: أنها ليست بتصوير، لأن التصوير فعل المصور، وهذا الرجل ما صورها في الحقيقة وإنما التقطها بالآلة، والتصوير من صنع الله.
ويوضح ذلك لو أدخلت كتابًا في آلة التصوير، ثم خرج من هذه الآلة، فإن رسم الحروف من الكاتب الأول لا من المحرك، بدليل أنه قد يشغلها شخص أمي لا يعرف الكتابة إطلاقًا أو أعمي في ظلمة، وهذا القول أقرب، لأن المصور بهذه الطريقة لا يعتبر مبدعًا ولا مخططًا، ولكن يبقي النظر: هل يحل هذا الفعل أو لا؟
والجواب: إذا كان لغرض محرم صار حرامًا، وإذا كان لغرض مباح صار مباحًا، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وعلي هذا، فلو أن شخصًا صور إنسانًا لما يسمونه بالذكري، سواء كانت هذه الذكري للتمتع بالنظر إليه أو التلذذ به أو من أجل الحنان والشوق إليه، فإن ذلك محرم ولا يجوز لما فيه من اقتناء الصور، لأنه لا شك أن هذه صورة ولا أحد ينكر ذلك.
وإذا كان لغرض مباح كما يوجد في التابعية والرخصة والجواز وما أشبهه، فهذا يكون مباحًا، فإذا ذهب الإنسان الذي يحتاج إلى رخصة إلى هذا المصور الذي تخرج منه الصورة فورية بدون عمل لا تحميض ولا غيره، وقال: صورني، فصوره، فإن هذا المصور لا نقول: إنه داخل في الحديث، أي: حديث الوعيد على التصوير، أما إذ قال: صورني لغرض آخر غير مباح، صار من باب الإعانة على الإثم والعدوان.
الحال الرابعة: أن يكون التصوير لما لا روح فيه، وهذا على نوعين:
النوع الأول: أن يكون مما يصنعه الآدمي، فهذا لا بأس به بالاتفاق، لأنه إذا جاز الأصل جازت الصورة، مثل أن يصور الإنسان سيارته، فهذا يجوز، لأن صنع الأصل جائز، فالصورة التي هي فرع من باب أولي.
النوع الثاني: ما لا يصنعه الآدمي وإنما يخلقه الله، فهذا نوعان: نوع نام، ونوع غير نام، فغير النامي، كالجبال، والأودية، والبحار، والأنهار، فهذه لا بأس بتصويرها بالاتفاق، أما النوع الذي ينمو، فاختلف في ذلك أهل العلم، فجمهور أهل العلم على جواز تصويره لما سيأتي في الأحاديث.
وذهب بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى منع تصويره، واستدل بأن هذا من خلق الله عز وجل، والحديث عام: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، ولأن الله عز وجل تحدي هؤلاء بأن يخلقوا حبة أو يخلقوا شعيرة، والحبة أو الشعيرة ليس فيها روح، لكن لا شك أنها نامية، وعلي هذا، فيكون تصويرها حرامًا، وقد ذهب إلى هذا مجاهد رحمه الله أعلم التابعين بالتفسير، وقال: إنه يحرم على الإنسان أن يصور الأشجار، لكن جمهور أهل العلم على الجواز، وهذا الحديث هل يؤيد رأي الجمهور أو يؤيد رأي مجاهد ومن قال بقوله؟
الجواب: يؤيد رأي مجاهد ومن قال بقوله أمران:
أولًا: العموم في قوله: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي).
ثانيًا: قوله: (أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)، وهذه ليست ذات روح، فظاهر الحديث هذا مع مجاهد ومن يري رأيه، ولكن الجمهور أجابوا عنه بالأحاديث التالية، وهي أن قوله: {أحيوا ما خلقتم} ، وقوله: (كلف أن ينفخ بها الروح) يدل على أن المراد تصوير ما فيه روح، وأما قوله: (أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)، فذكر على سبيل التحدي، أي: أن أولئك المصورين عاجزون حتى عن خلق ما لا روح فيه.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله) .
قوله: " أشد ". كلمة أشد اسم تفضيل بمعني أعظم وأقوي.
قوله: " الناس " للعموم. والمراد الذين يعذبون.
وقوله: " عذابًا ". تمييز مبين للمراد بالأشد، لأن التمييز كما قال ابن مالك:
اسم بمعني من مبين نكرة ** ينصب تمييزًا بما قد فسره
والعذاب يطلق على العقاب ويطلق على ما يؤلم ويؤذي وإن لم يكن عقابًا، فمن الأول قوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]، أي: العقوبة والنكال، لأنه يدخل النار والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار} [هود: 98]، ومن الثاني قول النبي عليه الصلاة والسلام: (السفر قطعة من العذاب) ، وقوله (الميت يعذب بالنياحة عليه) .
قوله: " يوم القيامة ". هو اليوم الذي يبعث فيه الناس، وسبق وجه تسميته بذلك.
وقوله: " أشد " مبتدأ، " والذين يضاهئون " خبره، ومعني يضاهئون، أي: يشابهون
" بخلق الله "، أي: بمخلوقات الله سبحانه وتعالى.
والذين يضاهئون بخلق الله هم المصورون، فهم يضاهئون بخلق الله سواء كانت هذا المضاهاة جسمية أو وصفية، فالجسمية أن يصنع صورة بجسمها، والوصفية أن يصنع صورة ملونة، لأن التلوين والتخطيط باليد وصف للخلق، وإن كان الإنسان ما خلق الورقة ولا صنعها لكن وضع فيها هذا التلوين الذين يكون وصفًا لخلق الله عز وجل.
هذا الحديث يدل على أن المصورين يعذبون، وأنهم أشد الناس عذابًا، وأن الحكمة من ذلك مضاهاتهم خلق الله عز وجل وليست الحكمة كما يدعيه كثير من الناس أنهم يصنعونها لتعبد من دون الله، فذلك شيء آخر، فمن صنع شيئًا ليعبد من دون الله، فإنه حتى ولو لم يصور كما لو أتي بخشبة وقال: اعبدوها، فقد دخل في التحريم، لقوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2]، لأنه أعان على الإثم والعدوان.
وقوله: " يضاهئون ". هل الفعل يشعر بالنية بمعني أنه لابد أن يقصد المضاهاة، أو نقول: المضاهاة حاصلة سواء كانت بنية أو بغير نية؟
الجواب: الثاني، لأن المضاهاة حصلت سواء نوي أم لم ينو، لأن العلة هي المشابهة، وليست العلة قصد المشابهة، فلو جاء رجل وقال: أنا لا أريد أن أضاهي خلق الله، أنا أصور هذا للذكري مثلًا وما أشبه ذلك، نقول: هذا حرام، لأنه متي حصلت المشابهة ثبت الحكم، لأن الحكم يدور مع علته كما قلنا فيمن لبس لباسًا خاصًا بالكفار: إنه يحرم عليه هذا اللباس، ولو قال: إنه لم يقصد المشابهة، نقول: لكن حصل التشبه، فالحكم المقرون بعلة لا يشترط فيه القصد، فمتي وجدت العلة ثبت الحكم.
فيستفاد من الحديث:
1. تحريم التصوير، وأنه من كبائر، لثبوت الوعيد عليه، وأن الحكمة من تحريمه المضاهاة بخلق الله عز وجل.
2. وجوب احترام جانب الربوبية، وأن لا يطمع أحد في أن يخلق كخلق الله عز وجل، لقوله: " يضاهئون بخلق الله "، ومن أجل هذا حرم الكبر، لأن فيه منازعة للرب، عز وجل، وحرم التعاظم على الخلق، لأن فيه منازعة للرب سبحانه وتعالى، وكذلك هذا الذي يصنع ما يصنع فيضاهي خلق الله فيه منازعة لله عز وجل في ربوبيته في أفعاله ومخلوقاته ومصنوعاته، فيستفاد من هذا الحديث وجوب احترام جانب الربوبية.
قوله: (أشد الناس عذابًا) فيه إشكال، لأن فيهم من هو أشد من المصورين ذنبًا، كالمشركين والكفار، فيلزم أن يكونوا أشد عذابًا، وقد أجيب عن ذلك بوجوه:
الأول: أن الحديث على تقدير "من "، أي: من أشد الناس عذابًا بدليل أنه قد جاءما يؤيده بلفظ: (إن من أشد الناس عذابًا).
الثاني: أن الأشدية لا تعني أن غيرهم لا يشاركهم، بل يشاركهم غيرهم، قال تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]، ولكن يشكل على هذا أن المصور فاعل كبيرة فقط، فكيف يسوي مع من هو خارج عن الإسلام ومستكبر؟!
الثالث: أن الأشدية نسبية، يعني أن الذين يصنعون الأشياء ويبدعونها أشدهم عذابًا الذين يضاهئون بخلق الله، وهذا أقرب.
الرابع: أن هذا من باب الوعيد الذي يطلق لتنفير النفوس عنه، ولم أر من قال بهذا ولو قيل بهذا لسلمنا من هذه الإرادات وعلى كل حال ليس لنا أن نقول إلا كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله).
ولهما عن ابن عباس: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم) .
قوله: ولهما ". أي: البخاري ومسلم.
قوله: " كل مصور في النار ". " كل ": من أعظم ألفاظ العموم، وأصلها من الإكليل، وهو ما يحيط بالشيء، ومنه الكلالة في الميراث للحواشي التي تحيط بالإنسان.
فيشمل من صور الإنسان أو الحيوان أو الأشجار أو البحار، لكن قوله: (يجعل له بكل صورة نفسًا) يدل على أن المراد صورة ذوات النفوس، أي: ما فيه روح.
قوله: "يجعل له بكل صورة صورها نفس". الحديث في " مسلم " وليس في " الصحيحين "، لكنه بلفظ " يجعل " بالبناء للفاعل، وعلي هذا تكون " نفسًا " بالنصب، وتمامه: "فتعذبه في جهنم ".
قوله: " يعذب بها ". كيفية التعذيب ستأتي في الحديث الذي بعده أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.
وقوله: " كل مصور في النار " أي: كائن في النار.
وهذه الكينونة عند المعتزلة والخوارج كينونة خلود، لأن فاعل الكبيرة عندهم مخلد في النار، وعند المرجئة أن المراد بالمصور الكافر، لأن المؤمن عندهم لا يدخل النار أبدًا، وعند أهل السنة والجماعة أنه مستحق لدخول النار وقد يدخلها وقد لا يدخلها، وأن دخلها لم يخلد فيها.
وقوله: " بكل صورة صورها ". يقتضي أنه لو صور في اليوم عشر صور ولو من نسخة واحدة، فإنه يجعل له في النار عشر صور يقال له: أنفخ فيها الروح، وظاهر الحديث أنه يبقي في النار معذبًا حتى تنتهي هذه الصور.
قوله: " كلف ". أي: ألزم، والمكلف له هو الله عز وجل.
قوله: " وليس بنافخ ". أي: كلف بأمر لا يتمكن منه زيادة في تعذيبه، وعذب بهذا العذاب ليذوق جزاء ما عمل، وبهذا تزداد حسرته وأسفه، حيث إنه عذب بما كان في الدنيا يراه راحة له، إما باكتساب، إو إرضاء صاحب، أو إبداع صنعة.
ولمسلم عن أبي الهياج، قال: قال لي علي. (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أن لا تدع صورة، إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا، إلا سويته) .
قوله: " عن أبي الهياج ". هو من التابعين.
قوله: " قال لي على ". هو على بن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله: " ألا أبعثك ". البعث: الإرسال بأمر مهم، كالدعوة إلى الله، قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا} [النحل: 36].
قوله: " علي ما بعثني ". يحتمل أن تكون " علي " على ظاهرها للاستعلاء، لأن المبعوث يمشي على ما بعث عليه، كأنه طريق له، وهذا هو الأولى، لأن ما وافق ظاهر اللفظ من المعاني فهو أولي بالاعتبار، ويحتمل أن " علي " بمعني الباء، أي: بما بعثني عليه.
وقد بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليًا إلى اليمن بعد قسمة غنائم حنين، وقدم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في مكة في حجة الوداع .
قوله: " أن لا تدع ". "أن " مصدرية، " لا ": نافية " " تدع ": منصوب بأن المصدرية وهي بدل بعض من كل من " ما " في قوله: " على ما بعثني "، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث على بن أبي طالب بأكثر من ذلك، لكن هذا مما بعثه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قوله: " صورة:. نكرة في سياق النفي فتعم.
وجمهور أهل العلم: أن المحرم هو صور الحيوان فقط، لما ورد في " السنن " من حديث جبريل أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (فمر برأس التمثال يقطع، فيصير كهيئة الشجرة) ، وسبق بيان ذلك قريبًا.
قوله: " إلا طمستها ". إن كانت ملونة فطمسها بوضع لون أخر يزيل معالمها، وإن كانت تمثالًا فإنه يقطع رأسه، كما في حديث جبريل السابق، وإن كانت محفورة فيحفر على وجهه حتى لا تتبين معالمه، فالطمس يختلف، وظاهر الحديث سواء كانت تعبد من دون الله أولا.
قوله: " ولا قبرًا مشرفًا ". أي: عاليًا.
قوله: " إلا سويته ". له معنيان:
الأول: أي سويته بما حوله من القبور.
الثاني: جعلته حسنًا على ما تقتضيه الشريعة، قال تعالى: {الذي خلق فسوى} [الأعلى: 2]، أي: سوي خلقه أحسن ما يكون، وهذا أحسن، والمعنيان متقاربان.
والإشراف له وجوه:
الأول: أن يكون مشرفًا بكبر الأعلام التي توضع عليه، وتسمي عند الناس (نصائل) أو (نصائب)، ونصائب أصح لغة من نصائل.
الثاني: أن يبني عليه، وهذا من كبائر الذنوب، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لعن المتخذين عليها المساجد والسرج).
الثالث: أن تشرف بالتلوين، وذلك بأن يوضع على أعلامها ألوان مزخرفة.
الرابع: أن يرفع تراب القبر عما حوله فيكون بينًا ظاهرًا.
فكل شيء مشرف، أي: ظاهر على غيره متميز عن غيره يجب أن يسوي بغيره، لئلا يؤدي ذلك إلى الغلو في القبور والشرك.
ومناسبة ذكر القبر المشرف مع الصور:
أن كلًا منهما قد يتخذ وسيلة إلى الشرك، فإن أصل الشرك في قوم نوح أنهم صوروا صور رجال صالحين، فلما طال عليهم الأمد عبدوها، وكذلك القبور المشرفة قد يزداد فيها الغلو حتى تجعل أوثانًا تعبد من دون الله، وهذا ما وقع في بعض البلاد الإسلامية، وقد أطال الشارح رحمه الله في هذا الباب في البناء على القبور، وذلك لأن فتنتها في البلاد الإسلامية قديمة وباقية، ما عدا بلادنا ولله الحمد، فإنها سالمة من ذلك، نسأل الله أن يديم عليها، وأن يحمي بلاد المسلمين من شرها.
عقوبة المصور ما يلي:
1. أنه أشد الناس عذابًا أو من أشدهم عذابًا.
2. أن الله يجعل له في كل صورة نفسًا يعذب بها في نار جهنم.
3. أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.
4. أنه في النار.
5. أنه ملعون، كما في حديث أبي جحيفة في " البخاري " وغيره.
* فائدتان:
الأولى: " كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " يقتضي أن المراد التصوير تصوير الجسم كاملًا، وعلى هذا، فلو صور الرأس وحده بلا جسم أو الجسم وحده بلا رأس، فالظاهر الجواز، ويؤيده ما سبق في الحديث: (مر برأس التمثال فليقطع)، ولم يقل: فليكسر، لكن تصوير الرأس وحده عندي فيه تردد، أما بقية الجسم بلا رأس، فهو كالشجرة لا تردد فيه عندي.
الثانية: تؤخذ من حديث على رضي الله عنه، وهو قوله: " أن لا تدع صورة إلا طمستها " أنه لا يجوز اقتناء الصور، وهذا محل تفصيل، فإن اقتناء الصور على أقسام:
القسم الأول: أن يقتنيها لتعظيم المصور، لكونه ذا سلطان أو جاه أو علم أو عبادة أو أبوة أو نحو ذلك، فهذا حرام بلا شك، ولا تدخل الملائكة بيتًا فيه هذه الصورة، لأن تعظيم ذوي السلطة باقتناء صورهم ثلم في جانب الربوبية وتعظيم ذوي العبادة باقتناء صورهم ثلم في جانب الألوهية.
القسم الثاني: اقتناء الصور للتمتع بالنظر إليها أو التلذذ بها، فهذا حرام أيضًا، لما فيه من الفتنة المؤدية إلى سفاسف الأخلاق.
القسم الثالث: أن يقتنيها للذكري حنانًا أو تلطفًا، كالذين يصورون صغار أولادهم لتذكرهم حال الكبر، فهذا أيضًا حرام للحوق الوعيد به في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن الملائكة لا تدخل بيتًا في صورة) .
القسم الرابع: أن يقتني الصور لا لرغبة فيها إطلاقًا، ولكنها تأتي تبعًا لغيرها، كالتي تكون في المجلات والصحف ولا يقصدها المقتني، وإنما يقصد ما في المجلات والصحف من الأخبار والبحوث العلمية ونحو ذلك، فالظاهر أن هذا لا بأس به، لأن الصور فيها غير مقصودة، لكن إن أمكن طمسها بلا حرج ولا مشقة، فهو أولي.
القسم الخامس: أن يقتني الصور على وجه تكون فيه مهانة ملقاة في الزبل، أو مفترشة، أو موطوءة، فهذا لا بأس به عند جمهور العلماء، وهل يلحق بذلك لباس ما فيه صورة لأن في ذلك امتهانًا للصورة ولا سيما إن كانت الملابس داخلية؟
الجواب: نقول لا يحلق بذلك، بل لباس ما فيه الصور محرم على الصغار والكبار، ولا يلحق بالمفروش ونحوه، لظهور الفرق بينهما، وقد صرح الفقهاء رحمهم الله بتحريم لباس ما فيه صورة، سواء كان قميصًا أو سراويل أم عمامة أم غيرها.
وقد ظهر أخيرًا ما يسمي بالحفائظ، وهي خرقة تلف على الفرجين للأطفال والحائض لئلا يتسرب النجس إلى الجسم أو الملابس، فهل تلحق بما يلبس أو بما يمتهن؟
هي إلى الثاني أقرب، لكن لما كان امتهانًا خفيًا وليس كالمفترش والموطوء صار استحباب التحرز منها أولي.
القسم السادس: أن يلجأ إلى اقتنائها إلجاء، كالصور التي تكون في بطاقة إثبات الشخصية والشهادات والدراهم فلا إثم فيه لعدم إمكان التحرز منه، وقد قال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78].
* فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين. الثانية: التنبية على العلة، وهي ترك الأدب مع الله، لقوله: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي". الثالثة: التنبية على قدرته وعجزهم، لقوله: "فليخلقوا ذرة أو شعيرة ". الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابًا. الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسًا يعذب بها المصور في جهنم.السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح. السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.
فيه مسائل:
* الأولى: التغليظ في المصورين. تؤخذ من قوله: " أشد الناس عذابًا.. " الحديث.
* الثانية: التنبيه على العلة، وهي ترك الأدب مع الله، تؤخذ من قوله: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي).
فمن ذهب يخلق كخلق الله، فهو مسيء للأدب مع الله عز وجل لمحاولته أن يخلق مثل خلق الله تعالى، كما أن من ضاده في شرعه فقد أساء الأدب معه.
* الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم، لقوله: " فليخلقوا ذرة أو شعيرة ".
لأن الله خلق أكبر من ذلك وهم عجزوا عن خلق الذرة أو الشعيرة.
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابًا. لقوله: " أشد الناس عذابًا.. " الحديث.
* الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسًا يعذب بها المصور في جهنم.
لقوله: " يجعل له بكل صورة نفس يعذب بها في جهنم ".
* السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح. لقوله: " كلف أن ينفخ فيها الروح. لقوله " كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ "، وهذا نوع من التعذيب من أشق العقوبات.
* السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت. لقوله: " أن لا تدع صورة إلا طمستها ".
وتؤخذ من حديث الباب أيضًا: الجمع بين فتنة التماثيل وفتنة القبور، لقوله: (أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته)، لأن في كل منهما وسيلة إلى الشرك.
ويؤخذ منه أيضًا: إثبات العذاب يوم القيامة، وأن الجزاء من جنس العمل، لأنه يجعل له بكل صورة صورها نفي فتعذبه في جهنم.
ويؤخذ منه: وقوع التكليف في الآخرة بما لا يطاق على وجه العقوبة